اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الشكر على نعمك وتوفيقك وامتنانك، والصلاة والسلام على خير داع إلى رضوانك، نبينا محمد وعلى آله وصحبه،
أما بعد:
فإن العبد المؤمن المطيع لله المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه الله ، فإذا أحبه الله وضع له القبول بين عباده ؛ فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : (إذا أحب الله العبد نادى جبريل : إن الله يحب فلاناً فأحببه ، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) ؛
هذا القبول والثناء لهذا العبد المتقي لله المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في حياته ، وبعد مماته ؛ قال القرطبي -رحمه الله- : "وقد شوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثر الثناء عليهم ، وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم ، ومنهم من كثر المشيعون لجنازته ، وكثر الحاملون لها ، والمتشغلون بها، وربما كثر الله الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس" ؛
فهذا أحمد ابن حنبل - رحمه الله عنه- لما مات صلَّى عليه من المسلمين ما لا يحصى، فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض فوجد موقف ألفي ألف وثلاثمائة ألف أو نحوها، ولما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره، فصلّى عليه ما لا يحصى".
ولما مات الأوزاعي - رحمه الله- اجتمع للصلاة عليه من الخلق ما لا يحصى ، وروي أنه أسلم في ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود والنصارى نحو من ثلاثين ألفا لما رأوا من كثرة الخلق على جنازته ، ولما رأوا من العجب في ذلك اليوم..
وأما الكافر أو الفاجر أو الفاسق فإن الله يبغضه ، ويبغّضه في قلوب عباده المتقين ، حتى أنها تبغضه الحيوانات والجمادات ، ولا تتأسف عليه إذا مات ؛ بل إنها تستريح من شره ؛ فعن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ عليه بجنازة ، فقال : (مستريح ومستراح منه) ، قالوا : يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه ؟ قال : (العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله ، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) .
وهذه الجنازة التي استراح من شرها البلاد والعباد، والشجر والدواب جاء في الحديث أنها عندما تحمل إلى المقبرة تصيح صياحاً بالغاً ، وتقول : "ياويلتي أين تذهبون بي" ؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلتي أين تذهبون بي ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعها الإنسان لصعق) فهما ميتان : ميت يستريح من تعب هذه الدار ، ويفضي إلى راحة دار القرار ، وميت يستريح منه البلاد والعباد ، ويفضي إلى سوء المصير وبئس المهاد.
وكما قلنا أن المؤمن بالله استراح من عناء الدنيا ، وانتقل إلى جوار المولى ، وحزن عليه العباد ، بل وبكت على فراقه الحي والجامد ، وأما الكافر أو الفاجر فقد فرح بموته العباد ، ولم تتأسف على فراقه البلاد بمن فيها ، بل فرحت بذلك ؛ يقول الله -تعالى-: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: " أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها فقدتهم ؛ فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم ، وعتوهم وعنادهم".
وقال داود بن قيس: سمعت ابن كعب يقول : "إن الأرض لتبكي من رجل ، وتبكي على رجل ، تبكي لمن كان يعمل على ظهرها بطاعة الله تعالى ، وتبكي ممن يعمل على ظهرها بمعصية الله تعالى ، قد أثقلها ، ثم قرأ : {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} ، وقال مجاهد : "ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحًا ، قال : فقلت له : أتبكي الأرض؟ فقال : أتعجب ؟ وما للأرض لا تبكي على عبد، كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ؟ ، وقال عطاء الخراساني : " ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة ، وبكت عليه يوم يموت "